{يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ أُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ الْأَنْعامِ إِلاَّ ما يُتْلى عَلَيْكُمْ غَيْرَ مُحِلِّي الصَّيْدِ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ ما يُرِيدُ (1)}فيه سبع مسائل:الأولى: قوله تعالى: {يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا} قال علقمة: كل ما في القرآن {يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا} فهو مدني و{يا أَيُّهَا النَّاسُ} [النساء: 1] فهو مكي، وهذا خرج على الأكثر، وقد تقدم. وهذه الآية مما تلوح فصاحتها وكثرة معانيها على قلة ألفاظها لكل ذي بصيرة بالكلام، فإنها تضمنت خمسة أحكام: الأول: الامر بالوفاء بالعقود، الثاني: تحليل بهيمة الانعام، الثالث- استثناء ما يلي بعد ذلك، الرابع- استثناء حال الإحرام فيما يصاد، الخامس- ما تقتضيه الآية من إباحة الصيد لمن ليس بمحرم.وحكى النقاش أن أصحاب الكندي قالوا له: أيها الحكيم أعمل لنا مثل هذا القرآن فقال: نعم! أعمل مثل بعضه، فاحتجب أياما كثيرة ثم خرج فقال: والله ما أقدر ولا يطيق هذا أحد، إني فتحت المصحف فخرجت سورة المائدة فنظرت فإذا هو قد نطق بالوفاء ونهى عن النكث، وحلل تحليلا عاما، ثم استثنى استثناء بعد استثناء، ثم أخبر عن قدرته وحكمته في سطرين، ولا يقدر أحد أن يأتي بهذا إلا في أجلاد.الثانية: قوله تعالى: {أَوْفُوا} يقال: وفي وأوفى لغتان! قال الله تعالى: {وَمَنْ أَوْفى بِعَهْدِهِ مِنَ اللَّهِ} [التوبة: 111]، وقال تعالى: {وَإِبْراهِيمَ الَّذِي وَفَّى} [النجم: 37] وقال الشاعر:أما ابن طوق فقد أوفى بذمته *** كما وفى بقلاص النجم حاديهافجمع بين اللغتين. {بِالْعُقُودِ} العقود الربوط، واحدها عقد، يقال: عقدت العهد والحبل، وعقدت العسل فهو يستعمل في المعاني والأجسام، قال الحطيئة:قوم إذا عقدوا عقدا لجارهم *** شدوا العناج وشدوا فوقه الكربافأمر الله سبحانه بالوفاء بالعقود، قال الحسن: يعني بذلك عقود الدين وهي ما عقده المرء على نفسه، من بيع وشراء وإجارة وكراء ومناكحة وطلاق ومزارعة ومصالحة وتمليك وتخيير وعتق وتدبير وغير ذلك من الأمور، ما كان ذلك غير خارج عن الشريعة، وكذلك ما عقده على نفسه لله من الطاعات، كالحج والصيام والاعتكاف والقيام والنذر وما أشبه ذلك من طاعات ملة الإسلام. وأما نذر المباح فلا يلزم بإجماع من الامة، قال ابن العربي. ثم قيل: إن الآية نزلت في أهل الكتاب، لقوله تعالى: {وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلا تَكْتُمُونَهُ} [آل عمران: 187]. قال ابن جريج: هو خاص بأهل الكتاب وفيهم نزلت.وقيل: هي عامة وهو الصحيح، فإن لفظ المؤمنين يعم مؤمني أهل الكتاب، لأن بينهم وبين الله عقدا في أداء الأمانة فيما في كتابهم من أمر محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فإنهم مأمورون بذلك في قوله: {أَوْفُوا بِالْعُقُودِ} وغير موضع. قال ابن عباس: {أَوْفُوا بِالْعُقُودِ} معناه بما أحل وبما حرم وبما فرض وبما حد في جميع الأشياء، وكذلك قال مجاهد وغيره.وقال ابن شهاب:قرأت كتاب رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الذي كتبه لعمرو بن حزم حين بعثه إلى نجران وفي صدره: هذا بيان للناس من الله ورسوله {يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ} فكتب الآيات فيها إلى قوله: {إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسابِ} [المائدة: 4].وقال الزجاج: المعنى أوفوا بعقد الله عليكم وبعقدكم بعضكم على بعض. وهذا كله راجع إلى القول بالعموم وهو الصحيح في الباب، قال صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «المؤمنون عند شروطهم» وقال: «كل شرط ليس في كتاب الله فهو باطل وإن كان مائة شرط» فبين أن الشرط أو العقد الذي يجب الوفاء به ما وافق كتاب الله أي دين الله، فإن ظهر فيها ما يخالف رد، كما قال صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «من عمل عملا ليس عليه أمرنا فهو رد». ذكر ابن إسحاق قال: اجتمعت قبائل من قريش في دار عبد الله بن جدعان- لشرفه ونسبه- فتعاقدوا وتعاهدوا على ألا يجدوا بمكة مظلوما من أهلها أو غيرهم إلا قاموا معه حتى ترد عليه مظلمته، فسمت قريش ذلك الحلف حلف الفضول، وهو الذي قال فيه الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لقد شهدت في دار عبد الله بن جدعان حلفا ما أحب أن لي به حمر النعم ولو أدعى به في الإسلام لأجبت». وهذا الحلف هو المعنى المراد في قوله عليه السلام: «وأيما حلف كان في الجاهلية لم يزده الإسلام إلا شدة» لأنه موافق للشرع إذ أمر بالانتصاف من الظالم، فأما ما كان من عهودهم الفاسدة وعقودهم الباطلة على الظلم والغارات فقد هدمه الإسلام والحمد لله. قال ابن إسحاق: تحامل الوليد بن عتبة على الحسين ابن علي في مال له- لسلطان الوليد، فإنه كان أميرا على المدينة- فقال له الحسين: أحلف بالله لتنصفني من حقي أو لآخذن بسيفي ثم لأقومن في مسجد رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثم لأدعون بحلف الفضول. قال عبد الله بن الزبير: وأنا أحلف بالله لئن دعاني لآخذن بسيفي ثم لأقومن معه حتى ينتصف من حقه أو نموت جميعا، وبلغت المسور بن مخرمة فقال مثل ذلك، وبلغت عبد الرحمن بن عثمان بن عبيد الله التيمي فقال مثل ذلك، فلما بلغ ذلك الوليد أنصفه.الثالثة: قوله تعالى: {أُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ الْأَنْعامِ} الخطاب لكل من ألتزم الايمان على وجهه وكماله، وكانت للعرب سنن في الأنعام من البحيرة والسائبة والوصيلة والحام، يأتي بيانها، فنزلت هذه الآية رافعة لتلك الأوهام الخيالية، والآراء الفاسدة الباطلية. واختلف في معنى: {بَهِيمَةُ الْأَنْعامِ} والبهيمة اسم لكل ذي أربع، سميت بذلك لإبهامها من جهة نقص نطقها وفهمها وعدم تمييزها وعقلها، ومنه باب مبهم أي مغلق، وليل بهيم، وبهمة للشجاع الذي لا يدرى من أين يؤتى له. و{الْأَنْعامِ}: الإبل والبقر والغنم، سميت بذلك للين مشيها، قال الله تعالى: {وَالْأَنْعامَ خَلَقَها لَكُمْ فِيها دِفْ ءٌ وَمَنافِعُ} [النحل: 5] إلى قوله: {وَتَحْمِلُ أَثْقالَكُمْ} [النحل: 7]، وقال تعالى: {وَمِنَ الْأَنْعامِ حَمُولَةً وَفَرْشاً} [الأنعام: 142] يعني كبارا وصغارا، ثم بينها فقال: {ثَمانِيَةَ أَزْواجٍ} [الأنعام: 143] إلى قوله: {أَمْ كُنْتُمْ شُهَداءَ} [البقرة: 133] وقال تعالى: {وَجَعَلَ لَكُمْ مِنْ جُلُودِ الْأَنْعامِ بُيُوتاً تَسْتَخِفُّونَها يَوْمَ ظَعْنِكُمْ وَيَوْمَ إِقامَتِكُمْ وَمِنْ أَصْوافِها} [النحل: 80] يعني الغنم {وَأَوْبارِها} يعني الإبل {وَأَشْعارِها} يعني المعز، فهذه ثلاثة أدلة تنبئ عن تضمن اسم الأنعام لهذه الأجناس، الإبل والبقر والغنم، وهو قول ابن عباس والحسن. قال الهروي: وإذا قيل النعم فهو الإبل خاصة.وقال الطبري: وقال قوم {بَهِيمَةُ الْأَنْعامِ} وحشيها كالظباء وبقر الوحش والحمر وغير ذلك. وذكره غير الطبري عن السدي والربيع وقتادة والضحاك، كأنه قال: أحلت لكم الانعام، فأضيف الجنس إلى أخص منه. قال ابن عطية: وهذا قول حسن، وذلك أن الأنعام هي الثمانية الأزواج، وما انضاف إليها من سائر الحيوان يقال له أنعام بمجموعة معها، وكان المفترس كالأسد وكل ذي ناب خارج عن حد الانعام، فبهيمة الأنعام هي الراعي من ذوات الأربع.قلت: فعلى هذا يدخل فيها ذوات الحوافر لأنها راعية غير مفترسة وليس كذلك، لأن الله تعالى قال: {وَالْأَنْعامَ خَلَقَها لَكُمْ فِيها دِفْ ءٌ وَمَنافِعُ} [النحل: 5] ثم عطف عليها قوله: {وَالْخَيْلَ وَالْبِغالَ وَالْحَمِيرَ} [النحل: 8] فلما استأنف ذكرها وعطفها على الأنعام دل على أنها ليست منها، والله أعلم وقيل: {بَهِيمَةُ الْأَنْعامِ} ما لم يكن صيدا، لأن الصيد يسمى وحشا لا بهيمة، وهذا راجع إلى القول الأول.وروى عن عبد الله بن عمر أنه قال: {بَهِيمَةُ الْأَنْعامِ} الأجنة التي تخرج عند الذبح من بطون الأمهات، فهي تؤكل دون ذكاة، وقاله ابن عباس وفيه بعد، لأن الله تعالى قال: {إِلَّا ما يُتْلى عَلَيْكُمْ} وليس في الأجنة ما يستثنى، قال مالك: ذكاة الذبيحة ذكاة لجنينها إذا لم يدرك حيا وكان قد نبت شعره وتم خلقه، فإن لم يتم خلقه ولم ينبت شعره لم يؤكل إلا أن يدرك حيا فيذكى، وإن بادروا إلى تذكيته فمات بنفسه، فقيل: هو ذكي.وقيل: ليس بذكي، وسيأتي لهذا مزيد بيان إن شاء الله تعالى.الرابعة: قوله تعالى: {إِلَّا ما يُتْلى عَلَيْكُمْ} أي يقرأ عليكم في القرآن والسنة من قوله تعالى: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ} [المائدة: 3] وقوله عليه الصلاة والسلام: «وكل ذي ناب من السباع حرام». فإن قيل: الذي يتلى علينا الكتاب ليس السنة، قلنا: كل سنة لرسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فهي من كتاب الله، والدليل عليه أمران: أحدهما: حديث العسيف: «لأقضين بينكما بكتاب الله» والرجم ليس منصوصا في كتاب الله.الثاني: حديث ابن مسعود: وما لي لا ألعن من لعن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وهو في كتاب الله، الحديث. وسيأتي في سورة الحشر. ويحتمل {إِلَّا ما يُتْلى عَلَيْكُمْ} الآن أو {ما يُتْلى عَلَيْكُمْ} فيما بعد من مستقبل الزمان على لسان رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فيكون فيه دليل على جواز تأخير البيان عن وقت لا يفتقر فيه إلى تعجيل الحاجة.الخامسة: قوله تعالى: {غَيْرَ مُحِلِّي الصَّيْدِ} أي ما كان صيدا فهو حلال في الإحلال دون الإحرام، وما لم يكن صيدا فهو حلال في الحالين. واختلف النحاة في: {إِلَّا ما يُتْلى} هل هو استثناء أو لا؟ فقال البصريون: هو استثناء من {بَهِيمَةُ الْأَنْعامِ} و{غَيْرَ مُحِلِّي الصَّيْدِ} استثناء آخر أيضا منه، فالاستثناء ان جميعا من قوله: {بَهِيمَةُ الْأَنْعامِ} وهي المستثنى منها، التقدير: إلا ما يتلى عليكم إلا الصيد وأنتم محرمون، بخلاف قوله: {إِنَّا أُرْسِلْنا إِلى قَوْمٍ مُجْرِمِينَ إِلَّا آلَ لُوطٍ} [الحجر: 58- 59] على ما يأتي.وقيل: هو مستثنى مما يليه من الاستثناء، فيصير بمنزلة قوله عز وجل: {إِنَّا أُرْسِلْنا إِلى قَوْمٍ مُجْرِمِينَ} ولو كان كذلك لوجب إباحة الصيد في الإحرام، لأنه مستثنى من المحظور إذ كان قوله تعالى: {إِلَّا ما يُتْلى عَلَيْكُمْ}مستثنى من الإباحة، وهذا وجه ساقط، فإذا معناه أحلت لكم بهيمة الأنعام غير محلي الصيد وأنتم حرم إلا ما يتلى عليكم سوى الصيد. ويجوز أن يكون معناه أيضا أوفوا بالعقود غير محلي الصيد وأحلت لكم بهيمة الأنعام إلا ما يتلى عليكم. وأجاز الفراء أن يكون {إِلَّا ما يُتْلى عَلَيْكُمْ} في موضع رفع على البدل على أن يعطف بإلا كما يعطف بلا، ولا يجيزه البصريون إلا في النكرة أو ما قاربها من أسماء الأجناس نحو جاء القوم إلا زيد. والنصب عنده بأن {غَيْرَ مُحِلِّي الصَّيْدِ} نصب على الحال مما في: {أَوْفُوا}، قال الأخفش: يا أيها الذين آمنوا أوفوا بالعقود غير محلي الصيد.وقال غيره: حال من الكاف والميم في: {لَكُمْ} والتقدير: أحلت لكم بهيمة الأنعام غير محلي الصيد. ثم قيل: يجوز أن يرجع الإحلال إلى الناس، أي لا تحلوا الصيد في حال الإحرام، ويجوز أن يرجع إلى الله تعالى أي أحللت لكم البهيمة إلا ما كان صيدا في وقت الإحرام، كما تقول: أحللت لك كذا غير مبيح لك يوم الجمعة. فإذا قلت يرجع إلى الناس فالمعنى: غير محلين الصيد، فحذفت النون تخفيفا.السادسة: قوله تعالى: {وَأَنْتُمْ حُرُمٌ} يعني الإحرام بالحج والعمرة، يقال: رجل حرام وقوم حرم إذا أحرموا بالحج، ومنه قول الشاعر:فقلت لها فيئي إليك فإنني *** حرام وأني بعد ذاك لبيبأي ملب، وسمي ذلك إحراما لما يحرمه من دخل فيه على نفسه من النساء والطيب وغيرهما. ويقال: أحرم دخل في الحرم، فيحرم صيد الحرم أيضا. وقرأ الحسن وإبراهيم ويحيى بن وثاب {حرم} بسكون الراء، وهي لغة تميمية يقولون في رسل: رسل وفي كتب كتب ونحوه.السابعة: قوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ ما يُرِيدُ} تقوية لهذه الأحكام الشرعية المخالفة لمعهود أحكام العرب، أي فأنت يا محمد السامع لنسخ تلك التي عهدت من أحكامهم تنبه، فإن الذي هو مالك الكل {يَحْكُمُ ما يُرِيدُ} {لا مُعَقِّبَ لِحُكْمِهِ} [الرعد: 41] يشرع ما يشاء كما يشاء.